كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: فجعل يلتفت فلا يرى شيئًا ممّا كان له من أهل ومال إلاّ وقد أضعفه الله له حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادًا من ذهب، قال: فجعل يضمّه بيده فأوحى إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولَكِنها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثمَّ إنّ امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني، إلى من أكِله؟ أدعه يموت جوعًا وتأكله السباع لأرجعنّ إليه، فرجعت إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيّرت فجعلت تطوف حيث كانت الَكِناسة وتبكي، وذلك بعين أيّوب.
قال: وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه، فأرسل إليها أيّوب فدعاها فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذًا على الَكِناسة لا أدري أضاع أم ما فعل؟.
فقال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: أردت بعلي فهل رأيته؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنّه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحًا، قال: فإنّي أنا أيّوب الذي أمرتني أنّ أذبح لإبليس، وإنّي أطعتُ الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه وتعالى فردَّ على ماترين.
وقال كعب: كان أيّوب في بلائه سبع سنين.
وقال وهب: لبث أيّوب في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدًا، فلمّا غلب أيّوب إبليس ولم يستطع منه شيئًا اعترض امرأته في هيئة ليس كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال، على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال، فقال لها: أنت صاحبة أيّوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت: نعم قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا، قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت، بصاحبك ما صنعت وذلك أنّه عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنّه عندي، ثم أراها إيّاهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه.
قال وهب: وقد سمعت أنّه إنّما قال: لو أنّ صاحبك أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفي ممّا به من البلاء، والله أعلم، وأراد إبليس لعنه الله أن يأتيه من قِبلها.
ورأيت في بعض الكتب أنّ إبليس قال لرحمة: وإن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال والأولاد وأُعافي زوجك، فرجعت إلى أيّوب فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: قد أتاكِ عدوّ الله ليفتنكِ عن دينكِ، ثمَّ أقسم إن عافاه اللّه ليضربنّها مائة جلدة.
وقال عند ذلك: مسّني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له، ودعائه إياّها وإيّاي إلى الكفر، قالوا: ثمَّ الله سبحانه رحم رحمة امرأة أيّوب بصبرها معه على البلاء، وخفّف عنها، وأراد أن يبرئ يمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها بها ضربة واحدة كما قال الله سبحانه {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] الآية.
وقال وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تكسب له وتعمل للناس وتجيئه بقوته، فلمّا طال عليهما البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها التمست له يوما من الأيّام ما تطعمه، فما وجدت شيئًا فجزّت قرنًا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال: مسّني الضر.
وقال قوم: إنّما قال: {مسّني الضر} حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يعيى عن الذكر والفكر.
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيّوب خيرًا ما ابتلاه بما نرى: قال: فلم يسمع أيوب شيئًا كان عليه أشدّ من هذه الكلمة، وما جزع من شيء أصابه جزعه من تلك الكلمة، فعند ذلك قال: مسّني الضرّ، ثم قال: اللهمَّ إن كنت تعلم أني لم أبتْ ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدّقني فصدّق، وهما يسمعان، ثمّ قال: اللهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أتّخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكانًا عار فصدقني فصدّق وهما يسمعان فخرَّ ساجدًّا.
وقيل معناه: مسّني الضر من شماتة الأعداء، يدلّ عليه ما روي أنّه قيل له بعدما عوفي: ما كان أشدّ عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء.
وقيل: إنّما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردّها إلى وضعها وقال: كلي فقد جعلني الله طعامك، فعضّتهُ عضّة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عضّ الديدان.
وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن جعفر الأبيوردي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبّاد البغدادي يقول: سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال: عرَّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.
وسمعت استاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسًا غاصًّا بالفقهاء والأُدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب {مَسَّنِيَ الضر} شكاية وقد قال الله سبحانه {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء، بيانه قوله سبحانه {فاستجبنا لَهُ} والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه.
{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} واختلفوا في كيفية ذلك فقال قوم: إنما آتى الله سبحانه أيّوب في الدُنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأما الذين هلكوا فإنّهم لم يُردّوا عليه، وإنّما وعد الله أيّوب أن يؤتيه إيّاهم في الآخرة.
وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلًا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن هذه الآية فقال: قيل له: إنّ أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجّلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا؟ فقال: يكونون لي في الآخرة، وأُوتي مثلهم في الدنيا.
قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب، ويكون معنى الآية على هذا التأويل وآتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، وأراد بالأهل الأولاد.
قال وهب: كان له سبع بنات وثلاثة بنين.
وقال ابن يسار: كان له سبع بنين وسبع بنات، وقال آخرون: بل ردّهم الله سبحانه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب قال: أحياهم الله وأُوتي مثلهم، وهذا القول أشبه بظاهر الآية.
وقال الحسن: آتاه الله المثل من نسل ماله الذي ردّ عليه وأهله، فأمّا الأهل والمال فإنه ردّهما عليه بأعيانهما.
{رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ} عظة لهم {وَإِسْمَاعِيلَ} يعني ابن إبراهيم {وَإِدْرِيسَ} وهو أخنوخ {وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} على أمر الله، واختلفوا في ذي الكفل، فأخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه في داري قال: حدَّثنا عمر بن الخطاب قال: حدَّثنا عبد الله الرازي عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت حديثًا للنبي صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه إلاّ مرة أو مرّتين لم أُحدّث به، سمعته منه أُكثر من سبع مرات، قال صلى الله عليه وسلم: «كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستّين دينارًا على أن تعطيه نفسها، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من المرأة أُرعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل، ما عملته قطّ، قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولَكِن حملتْني عليه الحاجة، قال: اذهبي فهو لك، ثم قال: والله لا أعصي الله أبدًا، فمات من ليلته فقيل مات ذو الكفل، فوجدوا على باب داره مكتوبًا: إنّ الله قد غفر لذي الكفل».
وروى الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحرث أنّ نبيًّا من الأنبياء قال: من يكفل لي أن يصوم النّهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم عاد فقال: من يكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: انا، فقال: اجلس، ثم عاد فقام الشاب فقال: أنا فقال: تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب؟ قال: نعم.
فمات ذلك النبي فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضربًا شديدًا فقال: من هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل معه رجلًا فرجع فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فأرسل معه آخر، فقال: لا أرضى بهذا، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاّه وذهب، فسمّي ذا الكفل.
وقال مجاهد: لما كبر اليسع عليه السلام قال: لو أنّي استخلفتُ رجلًا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى انظر كيف يعمل، قال: فجمع الناس فقال: من يتقبّل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا فردّه ذلك اليوم. وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا فاستخلفه قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم فقال: دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة وكان لا ينام بالليل والنهار إلاّ تلك النومة فدّق الباب فقال: من هذا؟ قال: شيخ فقير كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فجعل يقصّ عليه فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة وإنّهم ظلموني وفعلوا، وفعلوا فجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، قال: إذا رحت فإنّني آخذ لك بحقّك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه، فلمّا كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراهـ. فلمّا رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدّق الباب فقال: من هذا؟ قال: الشيخ المظلوم، ففتح له فقال: ألم أقل إذا قعدت فأتني قال: إنّهم أخبّ قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نعطيك حقّك، وإذا قمت جحدوني، قال: فانطلق فإذا رحت فأتني، ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحدًا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنّي قد شقَّ على النوم.
فلمّا كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلمّا أعياه نظر فرأى كوّة في البيت فتسوّر منها فإذا هو في البيت، وإذا هو يدّق الباب من داخل فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان ألم آمرك؟ فقال: أمّا من قبلي فلم تُؤتَ والله، فانظر من أين أُتيت؟ فقام إلى الباب فهو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فعرفه فقال: أعدوّ الله؟ قال: نعم أعييتني في كلّ شيء ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله منّي، فسمّي ذا الكفل لأنه تكفّل بأمر فوفى به.
وقال أبو موسى الأشعري: إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًّا ولَكِن كان عبدًا صالحا تكفّل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلّي لله سبحانه وتعالى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عزّ وجلّ عليه الثناء.
وقيل: كان رجلًا تكفّل بشأن رجل وقع في بلاء فأنجاه الله على يديه.
وقيل: ذو الكفل إلياس، وقيل: هو زكريّا، والله أعلم.
{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين وَذَا النون} واذكر صاحب النون وهو يونس بن متّى {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} اختلفوا في معنى الآية ووجهها فقال الضحّاك: ذهب مغاضبًا لقومه، وهي رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبي منهم تسعة أسباط ونصف سبط وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيًا النبي أن سر إلى حزقيا الملك وقل له حتى يوجّه نبيًّا قويًّا أمينًا فإنّي أُلقي في قلوب أُولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال: يونس، فإنّه قوي أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فها هنا غيري أنبياء أقوياء أُمناء، فالحّوا عليه فخرج مغاضبًا للنبىّ وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة فركبها فلمّا تلججت السفينة تكفأت حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاّحون، ها هنا رجل عاص أو عبد آبق، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر. ولئن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها، فاقترعوا ثلاث مرّات فوقعت القرعة في كلّها على يونس.
فقام يونس فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في الماء فجاء حوت فابتلعه، ثمَّ جاء حوت آخر أكبر منه فابتلع هذا الحوت، وأوحى الله إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة فإنّي جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله طعامًا لك.
وقال الآخرون: بل ذهب عن قومه مغاضبًا لرّبه إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه، وذلك أنّه كره أن يكون بين قوم قد جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي به دفع عنهم العذاب والهلاك، فخرج مغاضبًا وقال: والله لا أرجع إليهم كذّابًا أبدًا، وإنّي وعدتهم العذاب في يوم فلم يأتِ.
وفي بعض الأخبار: إنّ قومه كان من عادتهم أن يقتلوا من جرّبوا عليه الكذب، فلمّا لم يأتهم العذاب للميعاد الذي وعدهم خشي أن يقتلوه، فغضب وقال: كيف أرجع إلى قومي وقد أخلفتهم الوعد؟ ولم يعلم سبب صرف العذاب عنهم، وكيفية القصّة، وذلك أنّه كان خرج من بين أظهرهم، وقد ذكرتْ القصة بالشرح في سورة يونس.
قال القتيبي: المغاضبة مفاعلة، وأكثر المفاعلة من اثنين كالمناظرة والمخاصمة والمجادلةُ وربّما تكون من واحد كقولك: سافرت وعاقبت الرجل وطارقت النعل وشاركت الأمر ونحوها، وهي ها هنا من هذا الباب، فمعنى قوله: {مغاضبًا} أي غضبان أنفًا، والعرب تسمّي الغضب أنفًا، والأنف غضبًا لقرب أحدهما من الآخر، وكان يونس وعد قومه أن يأتيهم العذاب لأجل، فلمّا فات الأجل ولم يعذّبوا غضب وأنف أن يعود إليهم فيكذّبوه، فمضى كالنادّ الآبق إلى السفينة، وكان من طول ما عاين وقاسى من بلاء قومه يشتهي أن ينزل الله بهم بأسه.
وقال الحسن: إنّما غاضب ربّه من أجل أنّه أمر بالمصير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربّه أن يُنظره ليتأهّب للشخوص إليهم، فقيل له: إنّ الأمر أسرع من ذلك ولم يُنظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلًا يلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلًا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا؟ فذهب مغاضبًا.
وقال وهب بن منّبه اليماني: إنّ يونس بن متّى كان عبدًا صالحًا، وكان في خلقه ضيق، فلمّا حملت عليه أثقال النبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وخرج هاربًا منها، فلذلك أخرجه الله سبحانه من أُولي العزم، فقال لنبيّه محمد عليه السلام: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35] وقال: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] أي لا تلق أمري كما ألقاه.
{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أن لن نقضي عليه العقوبة، قاله مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، تقول العرب: قدّر الله الشيء بقدره تقديرًا وقدره يقدره قدرًا، ومنه قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} [الواقعة: 60] وقوله: {والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 3] في قراءة من خفّفهما، ودليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهري {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} بضم النون وتشديد الدال من التقدير، وقرأ عبيد بن عمير وقتادة: فظنّ أن لن يُقدّر عليه بالتشديد على المجهول، وقرأ يعقوب يُقدَر بالتخفيف على المجهول. وقال الشاعر في القدر بمعنى التقدير:
فليست عشيّات الحمى برواجع ** لنا أبدًا ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ** تباركت ما تقدر نفع ولك الشكر

وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه فظنّ أن لن نضيّق عليه الحبس من قوله سبحانه {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] أي يضيّق.